الإثنين, سبتمبر 22, 2025
No menu items!

"Mes moutons entendent ma voix,
et je les connais, et ils me suivent. "
Jean 10:27

Homeمريم العذراءعيد ميلاد والدة الإله الفائقة القداسة والتطرق لعقيدة الحبل بلا دنس في...

عيد ميلاد والدة الإله الفائقة القداسة والتطرق لعقيدة الحبل بلا دنس في نظر الكنيسة الكاثوليكية و الأرثوذكسية

تمّ تنقيح النص مع تصحيح علامات الترقيم فقط، وإزالة كل التنسيقات الغامقة:

عيد ميلاد والدة الإله الفائقة القداسة والتطرّق لعقيدة الحبل بلا دنس في نظر الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية

عندما نتطلع إلى حياة العذراء القديسة مريم ونتأمل بسيرتها الطاهرة، لا بد أن نستند إلى أسفار الوحي الإلهي وما تركه لنا آباء الكنيسة من دراسات واسعة في تفسير الكتاب المقدس، فبحسب تعاليم هؤلاء الآباء أن عشرات النبوات التي أعلنها الوحي الإلهي ودُوّنت في الأسفار النبوية في العهد القديم قد تمت في العذراء مريم، كما أن الآباء رأوا في بعض شخصيات الكتاب المقدس وحوادثه رموزاً وإشارات إليها.
فهي المرأة المقصودة بوعد اللـه تعالى للإنسان بالخلاص بقوله تعالى: «ونسـل المرأة يسحق رأس الحية» (تك 3: 15)، ونسلها المسيح يسوع الذي حُبل به فيها من الروح القدس وليس من زرع رجل. وهي حواء الجديدة، كما أن ابنها المسيح هو آدم الجديد. وإذا كان اللـه قد أخذ ضلعاً من جنب آدم وصنع منه حواء المرأة الأولى، ففي تجديد الخليقة ولد الإله المتجسد وهو آدم الثاني من العذراء التي هي حواء الثانية. وهي العذراء التي قال عنها النبي إشعيا (القرن الثامن ق.م) نبوته الشهيرة: «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل» (إش 7: 14)، الذي تفسيره «اللـه معنا» (مت 1: 23). وقد تناول الآباء بكتاباتهم هذه النبوات والرموز والإشارات وضمّ بعضها إلى كتب الصلوات.
كما أطلق الصديقون الأولون على مريم ابنة داود، العذراء القديسة، أسماء جميلة وبهية؛ فحزقيال ابن السبي سمّاها «باباً مغلقاً»، وسليمان دعاها «جنة موصدة وينبوعاً مختوماً»، وداود دعاها «مدينة نبت فيها المسيح عشباً»، دون زرع، «وصار مأكلاً للشعوب»، وفي يوم ميلاده حررنا من اللعنة.

«إنَّ العوسجة التي رآها موسى على جبل سينا ترمز إليكِ، أيتها العذراء القديسة؛ فالعوسجة تمثل جسدكِ المقدس، وأوراقها التي لم تحترق ترمز إلى بتوليتكِ، والنار التي في العوسجة ترمز إلى اللـه الذي حلَّ فيكِ.»

«إنَّ المركبة التي رآها النبي المختار حزقيال لا تطال جمالكِ؛ فالحيوانات المشدودة إليها والكاروبيون يباركون. وصور الوجوه الأربعة، أي صورة الأسد والثور والنسر والإنسان، يختلف بعضها عن بعض. أمّا ركبتاكِ، أيتها الأم المباركة، فقد صارتا له مركبة، وذراعاكِ صارتا له عجلة، وفمكِ يرنّم المجد.»

«لقد رمز إليكِ موسى بالعليقة (يا مريم)، ورمز إليكِ أبوكِ داود بتابوت العهد، وجدعون بالجزة، ويعقوب الصدّيق بالسلم الذي ارتقى به الجنس البشري إلى السماء.»

«طوباكِ يا مريم، فإن تابوت العهد الذي صنعه موسى كمثال يرمز إليكِ بصورة سرية؛ فقد احتوى اللوحين اللذين كتبهما اللـه، وأمّا أنتِ يا مريم فقد حويتِ خبز الحياة الحقيقي.»

«لقد رمزت إليكِ الصخرة التي نبعت منها الأنهر في البرية، أيتها البتول القديسة؛ فقد أشرق منكِ للعالم ابن اللـه الذي هو صخرة الحق، على حد قول الرسول بولس. أيتها العذراء الممتلئة فتنة، عنكِ تنبّأ الملك داود قائلاً: إنَّ ابنة الملك قامت (عن يمين الملك) بمجد وقداسة، واشتهى الملك جمالها فنزل وحلَّ في حشاها.»

هذا وقد رأى بعض الآباء رموزاً أخرى تشير إلى العذراء؛ كالشجرة التي وُجدت في جبل موريا وحملت كبشاً خلّص إسحق من الذبح، وعصا هارون التي أزهرت وأثمرت لوزاً، وغير ذلك.

نسب العذراء
تنتمي العذراء القديسة مريم إلى سبط يهوذا، وهي من نسل داود، وتتصل بصلة القرابة مع أليصابات أم يوحنا المعمدان، التي تُدعى في الإنجيل المقدس نسيبة العذراء (لو 1: 36)، ويقال إنها كانت خالتها. كما أن سالومي زوجة زبدي، وأم يعقوب ويوحنا، هي الأخرى تمتّ بصلة القرابة إلى العذراء مريم (مت 27: 56؛ مر 15: 40). وقد وردت في الإنجيل المقدس سلسلة نسب السيد المسيح من ناحية يوسف خطيب العذراء (مت 1: 16؛ لو 3: 23؛ أع 2: 30؛ رو 1: 3)، والعذراء ويوسف هما من سبط واحد.
فالعذراء مريم إذاً هي سليلة الكهنة والملوك والأنبياء، وهي ابنة داود، ولذلك قال لها الملاك لما بشّرها بالحبل الإلهي: «ستحبلين وتلدين ابناً… يكون عظيماً وابن العلي يُدعى… ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد…» (لو 1: 31 ـ 32).

العاقران يواكيم وحنّة والدا العذراء مريم
ويذكر لنا التقليد الكنسي، المستند إلى تعاليم الرسل، أنّ والدي العذراء مريم هما يواكيم وحنّة، وأن أبا حنّة هو الكاهن متّان من سبط لاوي ومن آل هارون، وأنَّ والدة حنّة هي مريم من سبط يهوذا. وأن يواكيم وحنّة كانا يقيمان في قرية بالقرب من الناصرة من أعمال الجليل، وكانا ميسورين ويوزعان أرباحهما على الهيكل والفقراء، وما تبقى لهما يسدّان به حاجتهما. وكانا عاقرين وبارّين أمام اللـه وسائرين بحسب نواميسه الإلهية، وكان العُقر لدى اليهود يُعتبر لعنة من اللـه وعاراً أمام الناس؛ ذلك أنَّ كل فتاة يهودية كانت تطمح وتصلي أن يولد منها المسيح، «ماسيّا» المنتظر، فكان يواكيم وحنّة يواظبان على الصلاة والطلب إلى اللـه ليزيل العار عن دارهما، وهكذا بلغا سن الشيخوخة دون أن تُستجاب طلبتهما.
ويُحكى أن يواكيم أتى مرّة إلى هيكل الرب ليقدم تقدمة، فرَفض الكاهن التقدمة لأنَّ مقدمها «عاقر». فعاد يواكيم إلى داره مغتمّاً، كسير القلب، ذليلاً، وأكثر من البكاء أمام اللـه، تُشاركه بذلك زوجه حنّة، فاستجاب اللـه طلبتهما ورزقهما ابنة سمّياها مريم. وهو اسم في الآرامية، مركب من «مور» و«يام»، ومعناه «بحر المرارة». وقال بعضهم إنَّ معنى كلمة «مريم» نجمة البحر، وكذلك النور.

الحبل بالعذراء بلا دنس وولادتها
لا بدَّ أن نذكر هنا أن الحبل بالعذراء مريم قد تم حسب الناموس الطبيعي؛ فهي من رجل هو يواكيم وامرأة هي حنّة، وأنَّ العذراء ابنة العاقرين، كإسحق وصموئيل ويوحنا المعمدان.
وهنا ندخل في صراع تعليمي؛ فالكنيسة الأرثوذكسية ترفض عقيدة الحبل بلا دنس وتقول: إن العذراء، مثل هؤلاء وكسائر الناس، قد ورثت عن أبويها خطية أبوينا الأولين آدم وحواء، التي تُسمّى «الخطية الأصلية» أو «الجدّية»، التي تشمل كل الإنسانية بدءاً من آدم الذي لما أخطأ كان يمثل نسله؛ فاشتركت سلالته بمسؤولية الخطية التي لم يكن بالإمكان محوها من الإنسانية الساقطة إلا بتجسد الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس.
لذلك يقول الرسول بولس: «بإنسان واحدٍ دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع» (رو 5: 12). وقال داود: «هاأنذا بالإثم صُوّرت، وبالخطية حبلت بي أمي» (مز 51: 5). ولم يُستثنَ من إرث هذه الخطية ممن لبس الجسد إلا ربنا يسوع المسيح «الذي أخذ كل ما لنا ما عدا الخطية»، والذي صار كفارة عن خطايا العالم: «متبرّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدّمه اللـه كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار برّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال اللـه» (رو 3: 23 و24). وكما بإنسان دخلت الخطية إلى العالم، كذلك بإنسان زالت (رو 5: 12 و15). فالعذراء، بنظر الكنيسة الأرثوذكسية إذن، كسائر الناس، وُلدت تحت حكم الخطية، وقد وُلدت على الأرجح في الناصرة.

أمّا في تعليم الكنيسة الكاثوليكية، والذي هو أيضاً جدّ مقبول، فالحبل بلا دنس، أو «سيّدتنا التي حُبل بها بلا دنس»، هي عقيدة مسيحية تختصّ بمريم العذراء وتندرج في إطار العلوم المريمية. ورغم وجودها في كتابات آبائية عديدة، إلا أنها أُقرت رسميًا في حبرية البابا بيوس التاسع عام 1854، وتنصّ على أن العذراء مريم قد وُلدت من دون أن ترث الخطيئة الأصلية، أي خطيئة آدم وحواء التي يرثها الجنس البشري؛ وذلك ليس بطاقاتها الذاتية، بل كما ينص منطوق العقيدة: «باستحقاقات ابنها يسوع المسيح»، أي أن يسوع قد خلّصها هي الأخرى كسائر المسيحيين، إنما بنوع فريد قبل تبشيره وصلبه، وذلك منذ اللحظة الأولى التي تشكّلت بها في بطن أمها. ولا تشير العقيدة إلى أن الحبل قد تمّ دون وجود اتصال جنسي، لكنها تشير إلى أن الروح القدس قد طهّر مريم من الخطيئة الأصلية منذ اللحظة الأولى التي تشكلت فيها؛ والهدف من العقيدة هو تبرئة العذراء من أي علاقة بالخطيئة؛ أي أنها طاهرة تماماً، ليس لها خطية أصلية أو شخصية منذ اللحظة الأولى التي حُبل بها وحتى وجودها كإنسان، نظراً للمكانة التي ستحتلها مريم بأن تكون أمّاً لله.
ويقول البابا بيوس التاسع في هذا الخصوص:
«الحبل بلا دنس، العصمة من الخطيئة الأصلية، كانت لمريم هبةً من الله وتدبيراً استثنائياً لم يُعطَ إلا لها. ومن هنا تظهر العلّة الفاعلة للحبل بمريم البريء، فهي من الله القدير، وتظهر أيضاً العلّة الاستحقاقية بيسوع المسيح الفادي. والنتيجة هي أن مريم كانت بحاجة إلى الفداء، وقد افتُديت فعلاً؛ فهي كانت، نتيجة لأصلها الطبيعي، لضرورة الخطيئة الأصلية، مثل أبناء آدم جميعاً، إلا أنها بتدخل خاص من الله قد وُقيت من دنس الخطيئة الأصلية. وهكذا افتُديت بنعمة المسيح، لكن بصورة أكمل من سائر البشر، وكانت العلّة الغائية القريبة للحبل بمريم البريء من الدنس هي أمومتها الإلهية.»

ترى الكنيسة الكاثوليكية أيضاً عدة شواهد من الكتاب المقدس تؤيد العقيدة؛ مثل نشيد الأناشيد 7/4: «كلكِ جميلة يا حبيبتي ولا عيب فيكِ». يعتقد المسيحيون أن النبوة السابقة تتعلق بمريم وبصفة «أن لا عيب فيها»، فمن ضمن العيوب الخطيئة الأصلية.
وكذلك وُصفت بـ «الممتلئة نعمة» في لوقا 1/28؛ فالامتلاء من النعمة يشمل التخلص من الخطيئة الأصلية أيضاً. سوى ذلك، في بعض الترجمات نجد «المنعَم عليها»، وهذا اللفظ يجعلنا نتساءل عن زمن بداية هذا الإنعام وعن هذا الامتلاء بالنعمة؛ فلا بد أن يمتد ليشتمل على حياة العذراء كلها منذ اللحظة الأولى.
هناك عدد آخر من الشواهد يرتكز على سفر حكمة يشوع بن سيراخ، وغيره من أسفار العهد القديم، إضافة إلى كتابات آباء الكنيسة الأوائل.

كما سبق وذكرنا، إن الكنائس الأرثوذكسية المشرقية تعترض على عقيدة الحبل بلا دنس، وتراه يتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس؛ الاعتراض يأتي بشكل أساسي من قول مريم في إنجيل لوقا: «تبتهج روحي بالله مخلّصي» (لو 1: 46). غير أن اللاهوتيين الكاثوليك لا يرون في الآية السابقة تعارضاً، طالما أن فعل التخليص قد تم بواسطة يسوع ابنها، سواءً قبل الصلب أم بعده؛ خصوصًا أن سفر المزامير يذكر أنّ: «قدس العليّ مسكنه» (مز 45: 5)، فكيف سيتخذ الابن جسداً يحوي الخطيئة الأصلية مسكناً له؟ الاعتراض الثاني يأتي من الرسالة إلى رومية حيث تُذكر شمولية الخطيئة الأصلية على جميع البشر؛ لكن اللاهوتيين الكاثوليك يرون أيضاً أن الرسالة إلى العبرانيين تذكر أن الموت جائز على جميع البشر مرة واحدة، ومع ذلك فإن العهد القديم والعهد الجديد يذكران أسماء عدة شخصيات أُجترحت معهم عجائب خاصة فعادوا إلى الحياة؛ وبالتالي يكونون قد ماتوا مرتين، وليس مرة واحدة، فالاستثناء دائماً جائز.
الكنائس الأرثوذكسية الشرقية رفضت العقيدة لكونها من صلب الإيمان، ولا حاجة لإعلان عقيدي خاص، تماشياً مع نظرة هذه الكنائس للخطيئة الأصلية. أمّا مارتن لوثر فقد قبل الحبل بلا دنس، واستند في برهان ذلك إلى القديس أغسطينوس، غير أن سائر البروتستانت يرون أن العقيدة تدخل في إطار المهاترات اللاهوتية.

إلا أنّ الكنيسة الكاثوليكية تستدرك وتؤكد أنه، رغم أن العذراء كانت معصومة من الخطيئة الأصلية، إلا أنها لم تُعصَم من ملحقات الخطيئة، أي الألم والعذاب.

«القدير صنع بي عظائم واسمه قدّوس» (لوقا 1: 49).
حياة العذراء مريم هي خير شرح لهذه الآية، وحياة والدة الإله هي أفضل مثال لنا نحن البشر.
إنسانةٌ مثلنا تقدّست بالنعمة وولدت الإله. يا له من سرّ عظيم يفوق كلّ العقول! عذراء تصبح والدة الإله! وحدها هذه العبارة يكمن فيها «كل سرّ تدبير الخلاص» (القدّيس يوحنا الدمشقي).
تواضع العذراء مريم جذب الله، هنا لبّ الموضوع: «طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله» (متى 5: 8). فهي لم تعاين الله فحسب، بل حملته في أحشائها. وهكذا، بمسيرتها، تتحقّق أقوال الأنبياء بخلاص الله الموعود للبشر. الله يصبح إنساناً.

الكنيسة تحتفل بميلاد السيّدة لأنّ فيها تمّ القصد الإلهيّ بخلاص البشر. من ميلادها نأخذ عبرةً أن: «كلّ مولود بشري مشروع قداسة وحامل للإله»، إذا هو أراد طبعاً، كما وتقيم الكنيسة لوالدة الإله أكثر من عيد في السنة.
ولكن يجب أن ندرك جيداً أن كلّ الأعياد الأساسيّة (وهي اثنا عشر، ما عدا الفصح) في الكنيسة، الثابتة والمنتقلة، هي أعياد سيّديّة لأنها تتمحور حول الرّب يسوع المسيح وترتبط به. فهي تُدعى سيّديّة لأنها من كلمة «سيّد»، وليس من كلمة «سيّدة». حتى عيد ميلاد والدة الإله، وعيد دخول السيّدة إلى الهيكل، وعيد البشارة، وعيد رقاد والدة الإله، والتي هي من ضمن الأعياد الاثني عشر، هي أعياد سيّديّة مرتبطة بالرّب، مع أنّها تُدعى أعياد والديّة.
الجدير بالملاحظة أن عيد ميلاد والدة الإله (الثامن من أيلول) هو أوّل عيد سيّدي في الكنيسة البيزنطية؛ بحيث تبدأ السنة الطقسيّة في أوّل شهر أيلول، وكذلك عيد رقاد والدة الإله هو آخر عيد سيّدي، ويقع في الخامس عشر من شهر آب.

لِمَاذا اختارت الكنيسة أن تُعيّد هذا العيد في اليوم الثامن من السنة الكنسيّة تحديداً؟
الإجابة على هذا السؤال مرتبطة بما يُمثله هذا اليوم؛ إنّه اليوم الذي يأتي بعد أيام الخليقة الستة ويوم السبت. فإذا كان اليوم السابع هو يوم العهد القديم، فاليوم الثامن هو يوم العهد الجديد.
خلق الله العالم في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع. يأتي اليوم الثامن ليكون اليوم الأُخرويّ – الملكوتيّ، الذي افتتحه الرب يسوع بقيامته من بين الأموات. فبالقيامة أصبح هذا اليوم القيامي اليوم الأوّل والثامن معاً، ليبقى لنا مفتوحاً أبديّاً نبدأه من هنا.
من هنا تقول لنا الكنيسة في هذا العيد: «اليوم تُولد الإنسانية خليقةً جديدةً بعد أن سقطت قديماً بالخطيئة، وتبدأ دورتها لتمرّ في بحر السنة بالقيامة المجيدة». ومن آمن بخلاص إلهنا لا يموت في نهاية سنيّ عمره، بل يرقُد مثل والدة الإله، وينقله الله إليه لحياةٍ أبديّة.
إنّ الطبيعة نفسها، التي أطلق عدوّ الإنسان سهامه عليها ليدمّرها، أتى من نسلها من داس على رأس الحيّة وفتح للبشرية أبواب السماوات.
وأيضاً، الكنيسة في ذلك أرادت أن تقول إنّ والدة الإله، الأم التي حملت في أحشائها الضابط الكل، تحمل في أحشائها دورة أعيادنا الليتورجية كلّها من أوّلها إلى نهايتها.
كيف لا، وهي الأمّ الحاضنة التي كلّما نظرنا إلى أيقونتها تنظر هي في وجهنا لتقول: «لنُهَلِّل سويًا للرّب يسوع المسيح؛ إنّه المخلّص الوحيد. إلهي وإلهكم، مخلّصي ومخلّصكم.» ومع ولادة مريم تبدأ بشائر الفرح وتحقيق الوعد الخلاصي. فهذه الطفلة ستكون والدة الإله. كما وقد تغلّبت على مختلف التجارب بعشقها لله والتصاقها به. نحن إذًا مدعوّون لنحذو حذوها ونتّخذها مثالاً؛ فإنّ من يتّحد بالله وبنعمته يغلب جميع أنواع الخطايا.
فالخطيئة ليست أقوى من الإنسان بتاتًا مهما تكبر وتثقل، بل هي مغلوبة بنور المسيح. وهذا يُذكّرنا بما قاله الله لقايين منذ بدء سفر التكوين: «…عند الباب خطيئة رابضة، وإليكَ اشتياقها، وأنت تسود عليها» (تكوين 4: 7). فعبارة «وأنت تسود عليها» هي لكل واحدٍ منّا؛ فنحن نسود على الخطيئة بثباتنا بالله.
مع ميلاد مريم تبتدئ رحلة عودتنا إلى الملكوت. ومع رقادها وانتقالها إلى السماء يتحقق ما قاله الرّب يسوع لنا: «من آمن بي، ولو مات، فسيحيا» (يو 11: 25). فنحن خُلقنا لنكون قياميّين بالـقائم أبداً ودائماً.

تاريخ العيد
يعود أصل العيد إلى أواسط القرن الخامس في أورشليم، حينما كُرّست كنيسة على اسم والدة الإله مريم قرب «البركة الغنمـيّة» أو «بركة بيت حسدا» في أورشليم.
من أورشليم انتقل الاحتفال بعيد ميلاد العذراء في القرن السادس إلى القسطنطينيّة، حيث وضع القدّيس رومانوس المرنّم التراتيل الخاصة بهذا العيد، وما زلنا نصلّي بعضها في طقوسنا.
من الشرق انتقل العيد إلى الغرب في عهد البابا سيرجيوس الأول (687–701) الأنطاكيّ الأصل.
لا يذكر العهد الجديد شيئاً عن طفولة مريم، كما سبق وذكرنا، ولا عن مولدها أو رقادها؛ ذلك أنّ هدف الأناجيل هو البشارة بالربّ يسوع، الإله المتجسّد، وبالتدبير الخلاصي من أعمالٍ وتعاليم. لكنّ التسليم الكنسي، الذي حفظ مكانة خاصة لوالدة الإله، يذكر أن ولادتها تمّت بتدخل إلهي مباشر، كما حصل مع عدد من الأشخاص في العهد القديم؛ كإسحق ابن إبراهيم، وشمشون، وصموئيل، ويوحنا المعمدان. ذلك كلّه ضمن سرّ التدبير الخلاصي.
من أكثر المصادر «إنجيل يعقوب المنحول». وهنا نلفت إلى أنّ الأناجيل المنحولة ليست كلّها هرطوقيّة وفاسدة؛ بل منها ما هو مفيد، ولكنّ الكنيسة لم تدرجه في الكتاب المقدّس لأنه لا يرتبط بالخلاص مباشرة، ومنها ما هو كاذب وهدفه الإساءة إلى الكنيسة، كإنجيل يهوذا. وقد شرح الآباء القدّيسون، الذين صادقوا على تعاليم الكنيسة، كلّ هذه الأمور، وليس من شيء مخفيٍ على أحد؛ فكل هذه الأمور مدوّنة من القرون الأولى للمسيحية.

إليكم ما ورد في «إنجيل يعقوب المنحول»: أنّ يواكيم، والد مريم، وهو من سبط يهوذا من نسل داود، تربّى في عائلة تقيّة مارست الشريعة وقدّمت الذبائح. فوالده كان غنيًّا جدًّا، ويقدّم القرابين لله قائلاً في قلبه: «لتكن خيراتي للشعب كلّه، من أجل مغفرة خطاياي لدى الله، ليشفق الربّ عليّ».
كذلك حنّة، والدة العذراء مريم، هي ابنة الكاهن متّان من قبيلة هارون، ولكنّها كانت حزينة بسبب عقرها، لأنّ العقر حُسِبَ عند اليهود عاراً ولعنة من الله، فيما الولادة تعني تأمين النسل لمجيء المسيح المنتظر.
صلّت حنّة إلى الربّ قائلة: «يا إله آبائي، باركني واستجِبْ صلاتي، كما باركتَ أحشاء سارة ورزقتها إسحق ابناً.» فإذا بملاك الربّ يقول لها: «يا حنّة، إنّ الله سمع صلاتك؛ سوف تحبلين وتلدين، ويكون نسلكِ مشهورًا في العالم بأسره.» فأجابت حنّة قائلة: «ليحيَ الربّ إلهي؛ سواء كان صبيًّا أم بنتًا ما ألده، فسوف أقدّمه للربّ، وسوف يكرّس حياته للخدمة الإلهيّة.» وحبلت حنّة، وفي الشهر التاسع ولدت بنتًا، وسمّتها «مريم»، وشكرت الله قائلة: «نفسي ابتهجت هذه الساعة.»

ليتورجيا العيد
تراتيل العيد مليئة بالفرح والتهليل والحبور: «هذا هو يوم الرب فتهللوا يا شعوب…»؛ «اليوم ظهرت بشائر الفرح لكل العالم…»؛ «اليوم حدث ابتداء خلاصنا يا شعوب…»؛ «…لتتزين الأرضيات بأفخر زينة، ولترقصنّ الملوك طربًا، لتسرّ الكهنة بالبركات، وليعيِّدن العالم بأسره…».

ولقراءات العيد أهميّة كبيرة؛ فهي تربط بين العهدين القديم والجديد

  • القراءة الأولى: السلم المنصوبة (تكوين 28: 12–14) «ورأى (يعقوب) حلماً، وإذا سلمٌ منصوبة على الأرض ورأسها يمسّ السماء، وهوذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها. وهوذا الرّب واقف عليها فقال: أنا الرّب إله إبراهيم أبيك وإله إسحق…»
    العذراء مريم هي السلم التي بها انحدر الإله.
  • القراءة الثانية: باب المقدس المغلق (حزقيال 44: 1–2) «فقال لي الرّب: هذا الباب يكون مغلقًا لا يُفتح، ولا يدخل منه إنسان، لأن الرّب إله إسرائيل دخل منه، فيكون مغلقًا.»
    تشير هذه القراءة، بحسب تفسير الكنيسة، إلى بتولية مريم الدائمة (قبل وأثناء وبعد الولادة) وأمومتها المعجزة البيان والوصف.
  • القراءة الثالثة: الحكمة وبيتها (أمثال 9: 1) «الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة، وذبحت ذبائحها، ومزجت خمرها، وهيأت مائدتها، وأرسلت جواريها تنادي على متون مشارف المدينة…»
    يشير هذا النص، بحسب تفسير الكنيسة بآبائها القدّيسين، إلى العذراء مريم البيت الذي بناه الله، الحكمة الفائقة، ودعوة البشر إلى مائدة الرّب.

لاهوت العيد
تقول إحدى ترانيم صلاة السحر: «يا للعجب الباهر، فإن الثمرة التي برزت من العاقر بإشارة خالق الكل وضابطهم، قد أزالت عقم العالم من الصالحات بشدة بأس.»
فكما أن يواكيم وحنّة هما صورة العالم العقيم، كذلك مريم هي صورة العالم الجديد المخصب، صورة الكنيسة التي لا تشيخ.
فرحنا بولادة مريم العذراء هو سرور وفرح بالرّب يسوع الذي سيولد منها؛ فالمسيح، الذي جعل مريم أمّ الحياة بالروح القدس وأضحت أمّ النور، يجعل الكنيسة أيضاً ينبوع الحياة.
هذا الأمر كثيراً ما ننساه؛ فنعامل والدة الإله وكأنها قائمة في ذاتها، مجرّدة عن دور الله في حياتها. ولكنّ الكنيسة تسمّي مريم «والدة الإله» في التراتيل والأناشيد الكنسّية كلّها، وهكذا تظهر في الأيقونات دائماً مع الرّب يسوع، باستثناء حالات خاصة جداً.
نهايةً، احتفال الكنيسة بولادة مريم والدة الإله هو إعلان الفرح بولادة فجر الخلاص، لأنّ الّتي وُلدت من عاقرين أحبّت الله وكرّست ذاتها له، فقبلَت أن تطيع تدبيره الخلاصيّ لتلد المسيح للعالم.

الأب جيرارد أبي صعب

RELATED ARTICLES

Most Popular