الإثنين, أكتوبر 14, 2024
No menu items!

"Mes moutons entendent ma voix,
et je les connais, et ils me suivent. "
Jean 10:27

Homeإنجيل الأحدتأمل الأحد الخامس من الصوم :أحد مريم المصرية

تأمل الأحد الخامس من الصوم :أحد مريم المصرية

تأمل الأحد الخامس من الصوم (أحد مريم المصرية)مرقس 10، 32-45

خصتْ الكنيسة هذا الأحد بتذكار مريم المصرية ابتداء من القرن الحادي عشر لتحثنا على التوبة والرجوع إلى الله، على نحو هذه القديسة مريم المصرية

بوصفها من أبطال التوبة المسيحية، كما نقرأ المقطع الإنجيلي من إنجيل القديس مرقس، والذي تنبّأ فيه السيد عن تسليمه وموته وقيامته وذلك كي نتحضّر نحن أيضاً للآلام والقيامة، وأن نعيّد للقديسة مريم المصرية نموذج التوبة وهامة النسك الكبيرة في الكنيسة

أمضت قديستنا سبعاً وأربعين سنة في برية صحراء غور الأردن (بيت عنيا). في ألفة الملائكة والحيوانات البرية

عام 1998 وجد الدير الذي عاشت فيه القديسة قرب المغطس على الضفة الشرقية من نهر الأردن

. ساعدها في حياتها الروحية بعض الرهبان القديسين الذين كانوا يعيشون زاهدين في تلك المنطقة أمثال القديس زوسيمس

وتُظهر حياة البارّة مريم المصرية حقيقةً عميقةً في الكيان البشريّ. كيف “أنها كانت أوّلاً متوحّلةً في الأدناس… لكنها ضارعت بعدها سيرة الملائكة…”؟ ،. يمكن للكائن البشريّ أن يصير ملاكاً أو أن ينتهي إلى كائنٍ حيوانيٍّ متوحّش بفضل حريّته

وكما يقول القديس أوغسطين يمكن للإنسان أن يصير جسدانياً حتّى روحه أو روحياً حتّى بشرته. عشقان تبدّلا في قلبٍ واحدٍ! ما هذا الصراع بينهما، كيف يتبدلان؟ أيهما الأحقّ والأقوى؟ تجيبنا على ذلك مريم المصرية

يرفض الكتاب المقدّس الصراع الاندولوجيّ الفلسفيّ بين الروح والجسد. ولا يقبل قولَ الفلسفة، بأنّ الجسدَ سجنٌ للنفس. إنّ الصراع بين الروح والجسد هو أخلاقي، إنّه التضاد بين أن “نشتهي الخليقة” أو أن “نشتهي الخالق”. قلب الإنسان معرٌّض لعشق الخالق كما لعشق الخليقة

فاختيار الخالق عشيقاً للقلب يجعل الإنسان روحانياً، يستخدم الخليقة بعفّة، واختيار الخليقة معشوقة للقلب هو زنىً روحي

“حيث كنـزك هناك قلبك”. إنّ قيمة الإنسان تساوي قيمة الرغبات التي في قلبه. وكرامته هي بمقدار كرامة المواضيع التي يحبّها

الإنسان كائنٌ ديناميكيٌّ متطوّرٌ يصير إلى ما في قلبه. فإذا ما اختار لذاته ثمارَ الروح رغباتٍ يُلهب بالروح جسدَه، وإذا ما اختار الدنيويّات “يطفىء الروح” بالدنيويات

“قداسة” تعني أن نصير كالقدّوس، أن ينطبق ما في قلبنا على ما في قلب الله. أن يصير اللهُ هو الشوق الوحيد للقلب الإنسانـيّ ولا تبقى في القلب إلا رغبةٌ وحيدةٌ أنْ “ليأتِ ملكوتُك، ولتكن مشيئتك”. القداسة هي وحدة الشوق الإنساني في الله

لا يهمّ إن كنتَ موجوداً فقط، الأهمّ هو كيف توجد! المهمّ ليس: من أين يأتي الإنسان، حتّى ولو كان من قرد ثم تطوّر! لكن المهمّ هو “إلى أين يذهب الإنسان”؟

الغاية هي أن يصير إلى إله، هذا هو العشق الكريم

أهمّ ما في الحياة الروحيّة المسيحيّة أنّها تحدّد علّة الخطيئة في الخُلقِ وليس في الخَلقِ، أي في الحريّة وليس في الطبيعة

تبدأ الخطيئة من الروح وليس من الجسد. السقوط الأول تمّ في عالم الملائكة حيث لا جسد لهم. تبدأ الخطيئة من الذهن وتعمل في الجسد وليس العكس. الجسد هو من المنفعلات وليس من الفاعلات، في رأي القدّيس يوحنا فم الذهب. الخطيئة هي إساءة من الروح تجاه الجسد، وليس العكس. لم يخطئ آدم لأنّ جسده أرغمه، بل لأنّ روحه تكاسلت تجاه الحبّ الإلهيّ، عندما اشتهتِ العالمَ بدل خالقه. الجسد هو خادمٌ كما للخيار الروحيّ الخاطئ كذلك لخياره الصحيح. تبديل الأشواق يتمّ في الروح

لذلك بداية الحياة الروحيّة الحقيقيّة هي “اعرفْ ذاتك”، أي تعرّف على ما في قلبك من أشواقٍ، وحدّد لهذا القلب ما عليه أن يحبّ أو أن يرفض. إيماننا أنّ العشق الحقيقيّ الأصلي للقلب البشريّ هو الإلهيّات وليس الدنيويّات

بحسب القدّيس غريغوريوس النيصصي، إنّ القلب ميّالٌ بالأصل إلى أصله، أي إلى الله. ودليل ذلك أنّ الحالات التي عدل فيها بعضُ الروحانيّين عن العشق الإلهيّ إلى الدنيا نادرةٌ، لكنّ حالات كالمصريّة مريم هي كثيرة، والتي رمى فيها بشريّون كلّ متطلبات البشرة ورغباتها بعد انغماسٍ رهيبٍ حتّى الأوحال، ومن ثم “تطايروا بالعشق الإلهيّ” دون عودة.

لذلك الرجاء لا يتزعزع حتّى في أكبر خاطئٍ! لأنّ الخطيئة هي حالةٌ منحرفةٌ للقلب وليست طبيعيّة. الخطيئة عنفٌ يـُمارس على القلب، الذي سيبقى يشتهي حريته إلى أن يجدها بالتقاط الحبّ الإلهيّ عشقاً له. لا يحيا القلب الإنسانـيّ على “الخبز” فقط، بل يحتاج بالأكثر إلى “كلمة الله”. ليس الإنسان مجرّد مستهلكٍ للعالم بل خالقٌ ثانٍ فيه بمعنى “الخلاّق والفنان”. وفنّه هذا هو روحنة العالم، “خطيئته” الأساسيّة هي الحوار مع العالم دنيوياً، “وحياته” هي الحوار مع الله من خلال العالم روحيّاً. هذا هو الميل الحقيقيّ للقلب البشريّ. لذلك نتوقّع في أيّة حالةٍ خاطئةٍ عودةً

لم تتعاطَ المصريّة مريم مع الدنيا فقط دنيوياً، بل ومع المقدّسات أيضاً. لقد بلغت فيها قوّة الفجور أن تقصد اللذّة في رحلة حجٍّ روحيّةٍ في عيد الصليب. ولكن ما هي قوّة ظلمة الفجور أمام إشعاع الروح؟ قدرها أن تتبدّد! بينما كانت هي تخدع قلبها، تمسّك هو بعشقه الحقيقيّ أمام خشبة الصليب. نعم، مهما عنّفنا قلبنا بالرغبات الدنيا يبقى ميالاً وراغباً بالإلهيات

عندها تحوّلت قوّة الفجور إلى طاقات توبة. لقد قضت المصريّة عشر سنوات تضلّل قلبها بلذّاتٍ لا ترويه، لكنّها أروت عطشه في سبعةٍ وأربعين سنةً من النسك، بالأصوام والصلوات. “يا لاستحالتكِ الشريفة وانتقالكِ إلى ما هو أفضل أيتها الموقّرة ويا لشوقكِ الإلهيّ الماقت اللذّات الجسديّة، ويا لإيمانكِ الحارّ الإلهيّ يا كليّة المديح مريم…” تقول الترانيم (من الأودية الثامنة، سحر الأحد)

لنحرّر قلبنا ولنعطِه ما يحبّه فعلاً. “اعرفْ ذاتك” يقول القدّيس باسيليوس الكبير. أعطِها طعامها الحقيقيّ. ليست التوبة نقلةٌ من راحةٍ إلى أتعابٍ؛ بل العكس! قد تكون لحظة التوبة قاسيةً وذلك بمقدار عمق الأوحال، لكنّها استراحة لقاء العاشق بالمعشوق

يمكن للقلب البشريّ أن يكون مسرحاً لعشّاقٍ عديدين، تختارهم الحريّة البشريّة. ولقد جال في قلب هذه المصريّة معشوقان، الدنيا والله. لكنّ القلب لم يرتحْ إلاّ في خالقه ومبدعه ومعشوقه الحقيقيّ

آميــن

الأب جيرارد أبي صعب

RELATED ARTICLES

Most Popular